كان القمر بدراً في تلك الليلة .. وأشعته الفضية تتسلل إلى الغرفة ذات الشباك الواحد .. و تستلقي على السرير تحت الشباك مباشرة .. فتقسمه نصفين ..
ليلة من ليالي الربيع .. باردة النسمات .. كان يجلس على حافة السرير في الجانب المظلم منه .. عارياً .. ينظر إلى الجدار مقابله .. وقد ألقى عليه ضوء القمر ظلال قضبان زنزانة باردة .. هل أنا في سجن فعلاً .؟؟
لم تكن تلك القضبان إلا ظل القضبان الحديدية للشباك .. تنهد و استلقى على قفاه و غاص في السرير الكبير الفاخر .. الجوال على الطاولة .. و السيارة الجديدة تقف عند الباب .. و زوجة حسناء خرجت من عنده للتو .. و صحة و عافية .. هل هناك سبب آخر للسعادة ؟؟
التفت صاحبنا إلى القمر .. فشعر بحنين جارف لا يدري ماهيته .. ورجعت به الذاكرة سنين طويلة .. يا لعجيب خلق الله في هذه الذاكرة .. كيف تختزل الأعوام المديدة في لحظات .. سافرت عيناه إلى القمر .. اقترب منه .. حتى أصبح ملء عينيه .. أطال في تأمله .. ثم رجع فوجد نفسه في سفح جبلٍ أشم .. في طرف من أطراف العالم المنسي .. في صحبة فتية غرباء .. و هذا هو القمر بعينه .. الذي كان يشرف عليهم من خلف الجبل .. يشهد كلامهم .. و يسمع نشيدهم .. كانت وجوههم تلمع بألوان الذهب و الفضة .. فتارة تعكس لون ألسنة اللهب الذهبية من النار التي يتحلقون حولها .. فإذا خفت اللهب .. انعكست على وجوههم أشعة القمر الفضية .. لم يتذكر نشيدهم .. ربما كانوا يرددون .. لبيك لبيك لبيك .. أو كلمة نحوها .. كان كل واحد منهم يحتضن رشاشه في حنان و مودة .. و كأنه طفله بين يديه ..
قصصهم شبيهة بالأساطير .. فهذا يسند رأسه على سبطانة سلاحه .. و يقص حكايات بلاد المغرب .. التي جاء منها .. و هذا يروي قصص أقصى الشرق .. و آخر بدوي يروي قصة صحراء مهلكة .. و كيف وصل إلى بلاد لم يسمع بها أبداً .. لم يتخلل جلستهم رنين جوال أو بيجر .. و لم يكدر صفوها صوت مذيع .. أو معلق كرة .. لا تتوسطهم لمبة كهربائية .. لا أزيز محرك .. و لا أنوار من بعيد .. و لم يكن هناك أي أثر للسيارات .. ليس ثمة إلا القمر .. و الحطب .. و الخيل صافنات قد ربطت إلى الشجر ..
ضحكات متفرقة .. تقطع هدوء الوادي المهجور .. .. لقد أحبهم كما لم يحب أحداً من قبل .. كم هو في شوق لتلك الجلسة .. قطع عليه سيل الذكريات صوت الباب .. رجعت عرسه و قد اغتسلت .. فزادها الماء بهاءاً و جمالاً .. نظر إليها .. جميلة .. كما أرادها و تمناها ..
تذكر أولئك الفتية .. و كيف كانوا يشربون الشاي و يتحدثون عن العرس .. أي عرس .. و قد كانت النساء أبعد ما تكون عنهم .. ربما أقرب امرأة من جلستهم تلك مسيرة أربعة أيام .. أي عرس .. و أي امرأة ترضى بهم .. و بثيابهم الرثة .. و جيوبهم الخاوية .. طبقات التراب على أجسادهم .. يشتكي بعضها من بعض .. و القمل يتزاحم على رؤوسهم .. لا يملكون بيوتاً و لا حتى خياماً .. لا يملكون مهوراً .. إلا .. دماءهم .. فهل هناك من ترضى بالدم مهراً لها ؟؟ ..
نعم .. كان هناك نساءاً يحبون هذا النوع من المهور الغالية .. بعيدات جداً .. قريبات جداً .. بعيدات بعد السماء .. قريبات .. أقرب لأحدهم من شراك نعله .. فبين أحدهم و بين عرسه طلقة أسرع من الصوت .. أو شظية كانت في طريقها إليه و هو في مكانه ذلك ربما لن تمهله حتى ينتهي من كأس الشاي .. أو لغم متحفز له على بعد أمتار من جلستهم .. ينتظر قفوله .. يكمن بينه و بين حصانه ..
كانت الحور العين .. أقرب إليهم من نساء الدنيا .. ذلك العرس الذي كانوا يتحدثون عنه .. بشوق ..
و هذا العرس الذي كان يحدث به نفسه .. بشوق أيضا .. كانوا يتحدثون .. و كان الله أعلم بما في قلوبهم .. لقد حضر زفاف أكثرهم .. فقد دفنهم الواحد تلو الآخر .. .. ثم رجع لعرسه الذي تمنى .. و لم يحضر زفافه أحد منهم ..
دمعة حارة .. تدحرجت على خده .. ليتني صدقت مع الله .. كما صدقوا .. مسحت عرسه الدمعة .. . ما الذي يبكيك أيها الحبيب .. أفي ليلة مثل هذه يبكي الرجل .. هل رأيت مني ما يكدرك .. بكت معه .. و لم تدري ما به .. و لن يدري أحد ما به .. و لا حتى هو نفسه .. ربما يبكي شوقاً إليهم .. أو حزناً عليهم .. أو على نفسه .. ربما يبكي لأنه تذكر ذلك الشرط المخيف .. لمن أراد أن يلحق بهم ..
شرط .. و مــــا بـــدلـــوا تــبــديـــلاً ..
عندما يبكي الرجال, اللهم ألحقنا بهم.. واجعلنا ممن يضحكون دنيا وآخره .. !!
ليلة من ليالي الربيع .. باردة النسمات .. كان يجلس على حافة السرير في الجانب المظلم منه .. عارياً .. ينظر إلى الجدار مقابله .. وقد ألقى عليه ضوء القمر ظلال قضبان زنزانة باردة .. هل أنا في سجن فعلاً .؟؟
لم تكن تلك القضبان إلا ظل القضبان الحديدية للشباك .. تنهد و استلقى على قفاه و غاص في السرير الكبير الفاخر .. الجوال على الطاولة .. و السيارة الجديدة تقف عند الباب .. و زوجة حسناء خرجت من عنده للتو .. و صحة و عافية .. هل هناك سبب آخر للسعادة ؟؟
التفت صاحبنا إلى القمر .. فشعر بحنين جارف لا يدري ماهيته .. ورجعت به الذاكرة سنين طويلة .. يا لعجيب خلق الله في هذه الذاكرة .. كيف تختزل الأعوام المديدة في لحظات .. سافرت عيناه إلى القمر .. اقترب منه .. حتى أصبح ملء عينيه .. أطال في تأمله .. ثم رجع فوجد نفسه في سفح جبلٍ أشم .. في طرف من أطراف العالم المنسي .. في صحبة فتية غرباء .. و هذا هو القمر بعينه .. الذي كان يشرف عليهم من خلف الجبل .. يشهد كلامهم .. و يسمع نشيدهم .. كانت وجوههم تلمع بألوان الذهب و الفضة .. فتارة تعكس لون ألسنة اللهب الذهبية من النار التي يتحلقون حولها .. فإذا خفت اللهب .. انعكست على وجوههم أشعة القمر الفضية .. لم يتذكر نشيدهم .. ربما كانوا يرددون .. لبيك لبيك لبيك .. أو كلمة نحوها .. كان كل واحد منهم يحتضن رشاشه في حنان و مودة .. و كأنه طفله بين يديه ..
قصصهم شبيهة بالأساطير .. فهذا يسند رأسه على سبطانة سلاحه .. و يقص حكايات بلاد المغرب .. التي جاء منها .. و هذا يروي قصص أقصى الشرق .. و آخر بدوي يروي قصة صحراء مهلكة .. و كيف وصل إلى بلاد لم يسمع بها أبداً .. لم يتخلل جلستهم رنين جوال أو بيجر .. و لم يكدر صفوها صوت مذيع .. أو معلق كرة .. لا تتوسطهم لمبة كهربائية .. لا أزيز محرك .. و لا أنوار من بعيد .. و لم يكن هناك أي أثر للسيارات .. ليس ثمة إلا القمر .. و الحطب .. و الخيل صافنات قد ربطت إلى الشجر ..
ضحكات متفرقة .. تقطع هدوء الوادي المهجور .. .. لقد أحبهم كما لم يحب أحداً من قبل .. كم هو في شوق لتلك الجلسة .. قطع عليه سيل الذكريات صوت الباب .. رجعت عرسه و قد اغتسلت .. فزادها الماء بهاءاً و جمالاً .. نظر إليها .. جميلة .. كما أرادها و تمناها ..
تذكر أولئك الفتية .. و كيف كانوا يشربون الشاي و يتحدثون عن العرس .. أي عرس .. و قد كانت النساء أبعد ما تكون عنهم .. ربما أقرب امرأة من جلستهم تلك مسيرة أربعة أيام .. أي عرس .. و أي امرأة ترضى بهم .. و بثيابهم الرثة .. و جيوبهم الخاوية .. طبقات التراب على أجسادهم .. يشتكي بعضها من بعض .. و القمل يتزاحم على رؤوسهم .. لا يملكون بيوتاً و لا حتى خياماً .. لا يملكون مهوراً .. إلا .. دماءهم .. فهل هناك من ترضى بالدم مهراً لها ؟؟ ..
نعم .. كان هناك نساءاً يحبون هذا النوع من المهور الغالية .. بعيدات جداً .. قريبات جداً .. بعيدات بعد السماء .. قريبات .. أقرب لأحدهم من شراك نعله .. فبين أحدهم و بين عرسه طلقة أسرع من الصوت .. أو شظية كانت في طريقها إليه و هو في مكانه ذلك ربما لن تمهله حتى ينتهي من كأس الشاي .. أو لغم متحفز له على بعد أمتار من جلستهم .. ينتظر قفوله .. يكمن بينه و بين حصانه ..
كانت الحور العين .. أقرب إليهم من نساء الدنيا .. ذلك العرس الذي كانوا يتحدثون عنه .. بشوق ..
و هذا العرس الذي كان يحدث به نفسه .. بشوق أيضا .. كانوا يتحدثون .. و كان الله أعلم بما في قلوبهم .. لقد حضر زفاف أكثرهم .. فقد دفنهم الواحد تلو الآخر .. .. ثم رجع لعرسه الذي تمنى .. و لم يحضر زفافه أحد منهم ..
دمعة حارة .. تدحرجت على خده .. ليتني صدقت مع الله .. كما صدقوا .. مسحت عرسه الدمعة .. . ما الذي يبكيك أيها الحبيب .. أفي ليلة مثل هذه يبكي الرجل .. هل رأيت مني ما يكدرك .. بكت معه .. و لم تدري ما به .. و لن يدري أحد ما به .. و لا حتى هو نفسه .. ربما يبكي شوقاً إليهم .. أو حزناً عليهم .. أو على نفسه .. ربما يبكي لأنه تذكر ذلك الشرط المخيف .. لمن أراد أن يلحق بهم ..
شرط .. و مــــا بـــدلـــوا تــبــديـــلاً ..
عندما يبكي الرجال, اللهم ألحقنا بهم.. واجعلنا ممن يضحكون دنيا وآخره .. !!